في شهر شعبان (يوليو) الذي وقعت فيه الإهانة على الباب في تبريز رجع الملاّ حسين من معسكر الأمير حمزه ميرزا إلى مشهد ومنها عزم على السفر إلى كربلاء مصحوبًا بمن أراد.
وبينما كان الملاّ حسين في مشهد إذ وصل رسول يحمل عمامة الباب وقد قال الباب للرسول أن يقول للملاّ حسين: "قل له زيّن رأسك بعمامتي الخضراء علامة نسبي وانشر الراية السوداء وأسرع إلى الجزيرة الخضراء (لقب لمازندران وبالتحديد يطلق أحيانًا على قلعة الشيخ طبرسي) وساعد حبيبي القدوس."
وبمجرد وصول هذه الرسالة قام الملاّ حسين على تنفيذ إرادة مولاه وترك مشهد لمكان يبعد عنها فرسخًا واحدًا (6 كيلومترات تقريبًا) ورفع فيه الراية السوداء ووضع عمامة الباب على رأسه وجمع أصحابه وركب جواده وأمر الجميع أن يسافروا إلى الجزيرة الخضراء وتبعه أصحابه جميعًا بحماس. وكان عددهم مائتين واثنين وكان ذلك اليوم التاريخي هو 19 شعبان سنة 1264 هجريّة (21 يوليو سنة 1848 ميلاديّة). وعند نزولهم في كل بلدة وقرية يمرّون عليها كان ينادي الملاّ حسين وأصحابه بدون خوف ولا وجل بظهور اليوم الجديد ويدعون الناس لاعتناق أمر الحقّ وينضمّ للسفر معهم نفر من المؤمنين الذين ينتخبونهم من بين الجموع المحتشدة حولهم. وفيما هم على الطريق وصل رسول من طهران إلى مشهد معلنًا وفاة الملك محمد شاه وكان ذلك في السادس من شوال- 4 سبتمبر سنة 1848 ميلاديّة. وارتقى الوارث الشرعي الأمير الصغير حاكم آذربايجان ناصر الدين ميرزا إلى العرش.
وفي اليوم التالي عزم الملاّ حسين على الرحيل إلى مازندران ومعه أصحابه وأمرهم بعد صلاة الصبح بأن يتركوا ما عندهم وقال لهم: "اتركوا ممتلكاتكم وليكتف كلّ واحد بجواده وسلاحه واتركوا ما عداها حتى يعلم الكلّ بأن هؤلاء الجماعة من أحباء الله لا يرغبون في حفظ ممتلكاتهم فكيف بالرغبة في أخذ ممتلكات غيرهم." فأطاعوا جميعًا الأمر وامتطوا ظهور جيادهم وتبعوه بفرح عظيم.
وبينما هم في الطريق اعترضهم جمهور من الناس المسلّحين ومعهم الذخيرة والعِدّة وكانت تظهر على وجوههم غبرة الافتراس والتوحّش وصوّبوا نيران أسلحتهم عليهم. فسقط عدد من الشهداء فرفع الملاّ حسين عينيه إلى السماء وناجى ربّه قائلاً: "إلهي إلهي ترى نصيب أحبّائك المخلصين وتشهد ما قابل به هؤلاء القوم أحبّائك وإنّك تعلم أنّا ما قصدنا سوى هدايتهم إلى طريق الحق وإعلامهم بظهور أمرك. وإنّك أمرتنا أن ندافع عن أنفسنا ضدّ المهاجمين. واتباعًا لأمرك أقوم الآن مع أصحابي لصدّ اعتدائهم الذي واجهونا به." واستلّ سيفه وهمز جواده في وسط الأعداء واقتفى أثر أحدهم الذي كان قد احتمى في شجرة وهجم عليه الملاّ حسين وبضربة واحدة قطعه هو وجذع الشجرة وكانت قوة هذه الضّربة المدهشة قد أربكت العدوّ وشلّت حركته وهرب الجميع مذعورين من أمام هذه المهارة والقوّة والفتوّة. وكانت هذه الحادثة الأولى من نوعها وتشهد بشهامة الملاّ حسين.
وشقّ الملاّ حسين طريقه وسط صفوف الأعداء وهو غير شاعر بما يطلق عليه من القذائف وذهب توًّا إلى بارفروش وتوجّه إلى منزل سعيد العلماء وهو أكبر عالم في بارفروش وصاح قائلاً: "فلينزل هذا الذي حرّض أهالي هذه المدينة لإشهار حربٍ دينيةٍ وخبّأ نفسه بين حيطان منزله فهل نسي أن الذي يُشهر حربًا دينية يجب عليه أن يكون على رأس أتباعه وبأعماله يُثير حماسهم وإخلاصهم." وكان صوت الملاّ حسين قد أسكت أصوات الجماهير وأخضع أهالي بارفروش فرفعوا أصواتهم منادين - الأمان الأمان -. وفي عصر ذلك اليوم منح الملاّ حسين أهالي بارفروش الأمان الذي طلبوه وفاه بالكلمات الآتية: "يا أتباع الرسول لماذا هجمتم علينا فهل هذه المعاملة هي ما أمركم به الرسول وهل هي التسامح الذي أمركم به في معاملة المؤمنين أو الكافرين."
وذهب الملاّ حسين إلى خان سبزه ميدان في بارفروش وأمر أصحابه بإغلاق باب الخان.
وفي المساء سأل الملاّ حسين إذا كان أحد من أتباعه يفدي نفسه ويطلع على سطح الخان ويؤذّن. فأجاب طلبه شاب بفرح عظيم. وما كاد هذا الشاب ينطق بالأذان ويقول- الله أكبر- حتى وافاه طلقٌ ناري أوقعه قتيلاً. وتلاه شخص آخر ثم ثالث لإكمال الآذان ولكنّهم أصيبوا نفس ما أصاب الأوّل.
وكان وقوع الثالث سببًا في أن يفتح الملاّ حسين باب الخان وأن يقوم مع أصحابه لردّ هذا الهجوم غير المنتظر. وأعطى إشارة لضرب المهاجمين الذين اجتمعوا أمام الباب ونجح في تشتيتهم وعادوا طالبين الأمان متضرّعين للرحمة. وكان النصر شاملاً لدرجة أن عددًا من أعيان ورؤساء المدينة تدخّلوا وطلبوا الرحمة والأمان نيابة عن مواطنيهم. واقترحوا على الملاّ حسين لمصلحة الطرفين أن يسافر مع الأصحاب إلى بلدة آمل فوافق الملاّ حسين على اقتراحهم.
وفي نصف الليل نادى سعيد العلماء أحد رجاله خسرو قادي كلائي وأسرّ إليه رغبته في أن يغدر بالجماعة أثناء سيره معهم ومعه مائة من الخيّالة وأن يقتلهم عن بكرة أبيهم. وأذن الملاّ حسين لأصحابه بالرحيل إلى آمل وبمجرّد ولوج الجماعة في الطريق أعطى خسرو قادي كلائي إشارة للهجوم. فوقع رجاله على الجماعة بكل توحّش وغدروا بهم وقتلوا منهم عددًا كبيرًا.
ولما سمع الملاّ حسين أصوات التعذيب احتجّ على غدر خسرو بهم وارتفع صياح أصحابه بنداء -يا صاحب الزمان- هاجمين على الذين غدروا بهم وأردّوهم جميعًا قتلى ومن بينهم خسرو قادي كلائي. وجمع الملاّ حسين أصحابه وساروا حتى وصلوا إلى ضريح الشيخ طبرسي (أحمد بن أبي طالب الطبرسي) وهو أحد رواة الحديث عن أئمة الدين ومدفنه مزار السكان المجاورين.
وكان يوم وصولهم في الرابع عشر من ذي القعدة (12 اكتوبر سنة 1848 ميلاديّة) وأعطى الملاّ حسين التعليمات الأوّلية لتصميم القلعة التي أراد تشييدها للدفاع إلى الميرزا محمد باقر القائني. وأمر الملاّ حسين أتباعه بالبدء في بناء القلعة التي صمّمها وشجعهم على إتمامها. وكانوا أثناء الاشتغال كثيرًا ما يباغتهم هجوم أهالي القرى المجاورة بتحريض من سعيد العلماء وكان هجوم كل منهم يُردّ ويُهزم.
وما كاد البناء ان يتمّ حتى وصل الشيخ أبو تراب وهو من أخصّ تلاميذ السيد كاظم ومعه أخبار وصول حضرة بهاء الله فأسرع الملاّ حسين توًّا إلى أصحابه وأمرهم أن يهيّئوا أنفسهم لاستقباله. ويحكى ما يلي: "وبمجرّد أن رآه الملاّ حسين تقدّم نحوه وعانقه وكان الأصحاب عاجزين عن إدراك ما شاهده الملاّ حسين في حضرة بهاء الله. فما كان أعظم شوقه إذ تلقّاه بين ذراعيه وما كان أعظم اغتباطه وفرح قلبه عند لقائه فكأنه كان غارقًا في بحر من الإعجاب به غير شاعر بنا جميعًا. وكان يتأمّل في وجهه بدرجة أخذت بمجامع لبّه حتى أنّنا مكثنا واقفين بجانبه منتظرين صدور الإذن لنا بالجلوس ولكنّه كان مشغولاً عنّا ولم يصدر لنا إذن بالجلوس إلاّ من حضرة بهاء الله نفسه وكان سحر بيانه قد أثّر في نفوسنا رغمًا عن أنّنا ما كنّا نعرف تلك القوّة الفائقة التي كانت مستورة في طيّ كلماته."
وأثناء زيارة حضرة بهاء الله طاف بالقلعة وقال إنّ الشيء الوحيد الذي ينقص هذه القلعة هو حضور القدوس الذي كان مسجونًا في منزل رئيس المجتهدين الميرزا محمد تقي في ساري وأشار إلى الملاّ حسين أن يسأل الميرزا محمد تقي أن يسلّمه القدوس وأكّد للملاّ حسين قائلاً: "إنّ خوف الله واتّقاء عقابه سيرغمانه أن يسلم أسيره بدون تردّد."
وأرسل الملاّ حسين عددًا من أصحابه إلى ساري ليطلبوا من المجتهد أن يطلق سراح سجينه وبمجرد أن وصلت الرسالة إلى الميرزا محمد تقي أخذت قوّتها بمجامع لبّه وأكّد للرسول بقوله: "إنّي اعتبرته (القدوس) ضيفًا محترمًا بل إنّه قاطن في منزله ولا يليق ان أُدعى لإطلاق سراحه أو فكّ قيده لأنّه مُخيّر في البقاء أو الذهاب كما يشاء وإذا فضّل الذهاب فاني أرغب في مرافقته إلى حيث يذهب."
وأمر حضرة بهاء الله الجميع قبل مبارحته للقلعة بالصبر والإنابة إلى إرادة القدير وقال لهم: "إن شاء الله سوف نزوركم مرّة أخرى في نفس المكان فقد انتخبكم الله أن تكونوا طليعة جيشه وجنده ومؤسّسي دينه. وإنّ جند الله هم الغالبون فمهما حدث فالنصر مضمون لكم." وعاد حضرة بهاء الله من هناك بطريق نور إلى طهران.
وكان حبس القدوس في منزل الميرزا محمد تقي قد استمر 95 يومًا وكان المجتهد يعامله بكلّ احترام رغم حبسه وسمح له بمقابلةالأصحاب من الذين حضروا اجتماع بدشت. وكان القدوس يأمر كلّ من يزوره بأن ينخرط في سلك أصحاب الراية السوداء التي رفعها الملاّ حسين. وكانت هذه الراية هي التي تكلّم عنها رسول الله بقوله: "إذا رأيتم الرايات السود أقبلت من خراسان فأسرعوا إليها ولو حبوًا على الثلج فإنّها بشيرة بظهور خليفة الله المهدي."
وكان قد رفع هذا العَلَم بأمر من الباب باسم القدوس وبأيدي الملاّ حسين ونشر على طول الطريق من مشهد إلى ضريح الشيخ طبرسي. ولمدّة أحد عشر شهرًا من أول شعبان سنة 1264 هجريّة إلى آخر جمادى الثاني سنة 1265 هجريّة (3 يوليو- أول أغسطس سنة 1848 و 24 ابريل -23 مايو سنة 1849 ميلاديّة) كان هذا العَلَم الذي يشير إلى المملكة السماويّة يتموّج دائمًا فوق رؤوس ذلك الجمع من الفرسان وينادي الذين يشاهدونه أن يرفضوا هذا العالم وينصروا أمر الله.
وكانت أخبار قُرب حضور القدوس إلى القلعة قد حرّكت جميع الموجودين ولمّا اقترب منه أرسل رسولاً لإعلان مجيئه فأحدثت هذه الأخبار فيهم حماسًا وجدّدت قواهم وقام الملاّ حسين بحماس زائد ومعه الأحباء وأسرع لمقابلة زائره المنتظر وابتهجت قلوبهم من ملاقاته وذهبوا جميعًا إلى ضريح الشيخ طبرسي وكانت أوّل الكلمات التي تفوه بها القدوس بعد أن ترجل واستند إلى الضريح: "بَقِيّةُ الله خير لكم إن كنتم مؤمنين" (القرآن 86:11) وبهذه العبارة تمّت نبوّة الرسول حيث يقول في الحديث: "وعند ظهور المهدي يسند ظهره إلى الكعبة ويخاطب أتباعه ويقول - بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين-." ولم يقصد القدوس ببقيّة الله أحدًا خلاف حضرة بهاء الله. ويقول الميرزا محمد فروغي أحد الحاضرين: "كنت موجودًا عندما ترجّل القدوس واسند ظهره إلى الضريح وسمعته يتفوه بهذه الكلمات وما كاد ينطق بها حتى ذكر اسم حضرة بهاء الله ثم التفت إلى الملاّ حسين وسأله عنه. فأخبره أنه عازم على العودة إلى هذا المكان إن شاء الله." وأكّد القدوس بأن سرّ الأمر (إشارة إلى حضرة بهاء الله) سينكشف في الوقت المعلوم.
وكان إكمال بناء القلعة وتموينها بكل ما يلزمها للدفاع قد أحيى حماس أصحاب الملاّ حسين وأثار اندهاش الأهالي المجاورين وكانوا يعجبون بالسرعة الفائقة التي تمّ بها بناؤها. وكان كلّ من سبق له رؤيتها يمتدحها وانتقل المدح من فمٍ إلى آخر حتى وصل إلى آذان سعيد العلماء فاشتعلت في صدره نيران الحسد والحقد وأصدر أمرًا بمنع أي شخص من الاقتراب منها وتكفير الذين كانوا سببًا في بنائها وأمر الجميع بمقاطعة الملاّ حسين. ورغمًا عن صدور أوامره المشددة كان البعض لا يعبأون بها ويعملون كلّ ما في وسعهم لمساعدة الذين اضطهدوا بغير ذنب. وحلّت المصائب والشدائد على المحصورين على شأن أنّهم ما كانوا يجدون ضروريات الحياة إلاّ أنّهم كانوا في أشدّ أوقات الحاجة تأتيهم النجدة الإلهيّة فجأة ويفتح لهم باب الخلاص على غير انتظار.
فانزعج سعيد العلماء من ذلك واشتعل غضبه وكتب إلى ناصر الدين شاه الذي تبوأ العرش حديثًا وأسهب في الكلام على الأضرار التي تهدد المملكة وقال: "لا يوجد نصر مؤكّد لتثبيت حكمك غير محو هذا الدين الممقوت وأمّا إذا ترددت في سياستك وأظهرت لهم أقلّ تسامح فإنّي أشعر بواجبي في تحذيرك بأنّه سوف يأتي قريبًا ذلك اليوم الذي فيه لا يقتصر الأمر على خضوع أهل مازندران وحدهم بل إنّ جميع إيران من أقصاها إلى أقصاها سوف تخضع لأمرهم."
ولمّا كان ناصر الدين شاه غير مدرّب على أمور المملكة أحال الموضوع على الضباط ورؤساء الجيش في مازندران وأمرهم أن يتخذوا أيّ تدبير يرونه صالحًا ووافق الشاه وأصدر فرمانًا إلى عبد الله خان التركماني في مازندران يمنحه السلطة التّامّة لإخماد نار هؤلاء الجماعة.
وفي مدّة قصيرة جمع عبد الله خان جيشًا جرّارًا مكوّنًا من اثني عشر ألف نفر وجمعهم في قرية مشرفة على قلعة طبرسي. وما كاد المعسكر يستقرّ حتى شدّد الحصار ومنع إرسال الخبز إلى أصحاب الملاّ حسين حتى أنّه قطع الماء عنهم. وكان من المستحيل على المحصورين أن يخرجوا من القلعة تحت نيران المعسكر وأمر عبد الله خان بإطلاق النار على كلّ من يتجرّأ من الأصحاب على الخروج لجلب الماء. وكان القدوس إذ ذاك عند غروب الشمس ينظر إلى ذلك الجيش الجرّار من شرفة القلعة فقال للملاّ حسين: "إن شاء الله ستمطر السماء هذه الليلة ويتبعه سقوط الثلج الشديد ويساعد ذلك في صدّ هجومهم المدبّر."
وفي تلك الليلة فاضت الأرض من هطول المطر الذي أتلف الكثير من المَؤُونة إتلافًا تامًّا واجتمع داخل القلعة ماء يكفي للشرب لمدّة طويلة. وفي الليلة السابقة للخامس من محرّم سنة 1265 هجرية (أول ديسمبر سنة 1848 ميلادية) عزم القدوس على الخروج من القلعة .