ملاحظات وتأملات : انتشر الدين البهائي بين المئات وحتى الالوف من الأجناس المتباينة جدا من حيث الأفكار والعوائد والطقوس والأصول الدينية ، ومنهم من كانوا في الأصل مسيحيين وغيرهم بوذيين ويهود ولا دينيين ومسلمين من الشيعة ومسلمين من السنة ومن اتباع الديانات الأصلية للهنود الحمر والأديان الأصلية في قارة افريقا وغيرها مما قد يخطر أو لا يخطر على البال. ومنهم الأطباء والمهندسين ومنهم من كانوا من علماء الدين المسلمين وخاصة في العقود الأولى من بدايته ، ومنهم من كانوا قسان ومنهم الفلاحين ومنهم سكنة المدن ومنهم من سكان القرى ومنهم المثقفين أصحاب شهادات الدكتوراه ومنهم من لم يذهب الى المدارس . وفي خلال ما يقارب على 150 سنة أصبح البهائيون يمثلون العالم بأجمعه بكل الوانه وتنوعاته وكلهم أختاروه طريقة ً ومذهبا ً لهم عن قناعة وبكل رغبة وبدون اية ضغوط قسرية أو وعود تشويقية . والذين كانوا متمسكين بأديانهم جاءوا اليه ربما بسبب تحقيقه للنبوءات الموجودة في كتبهم أو بعد قراءة كتاباته وتأثيرها على قلوبهم ، وغيرهم أقبلوا اليه عقليا وفكريا في البداية لقناعتهم بأهمية مبادئه في عصرنا الحاضر ومن ثم وربما بعد أشهر أو سنين أثرَ على قلوبهم أيضا مثلما استجاب لمنطقهم أولا ، ومنهم من اقبل اليه عن طريق رؤية في المنام دون ان يبالي بالبراهين العقلية أو النقلية بالبتة .. وربما يكون عدد طرق أقبال الناس الى الدين البهائي مقاربا لعدد المؤمنين به فلكل منهم أسبابه ومنهم من أقبل اليه و صمد فيه وهناك من أقبل اليه لفترة طالت أم قصرت ثم تركه لسبب ما دون ان يعترض عليه أو يقف في طريقه أحد. والمهم هنا ان كل من يؤمن بالدين البهائي يكون إيمانه نتيجة تحريه الشخصي الفردي ، وهو من المبادئ البهائية المهمة وحتى الذين يولدون لعوائل بهائية يعلمون ان دينهم يجب ان يكون نتيجة اختيارهم الشخصي وتحريهم الحـُر للحقيقة وليس عن وراثة أو عن صدفة الولادة في مكان أو زمان معين ، ويشجعهم اهلهم على ان يدرسوا ويطـّلعوا على الأديان الاخرى في العالم وعقائد الآخرين. وليس في الدين البهائي رجال دين أو اي نوع من الرهبنة وليس فيه مبشرين محترفين بل كان انتشاره نتيجة التشجيع ان لا يتجمع اكثر افراده في مكانات محدودة بل ينتشرون في انحاء المعمورة معتمدين في أغلب الأحيان في مصاريفهم على ما يكسبوه من الرزق في البلدان التي ينتقلون اليها وكم منهم من تحمل الصعاب في البلدان الجديدة الى ان تعلموا اللغة هناك ووجدوا الرزق الى ان أصبحوا وأولادهم وأحفادهم فيما بعد من سكان تلك الدولة وهكذا انتشر الدين البهائي في اقطاب البر والبحر(5) رغم محاولات قمعه في دول نشأته ورغم شحة موارده المالية وقلة أعداد أتباعه .
ومما يدعو ايضا الى التأمل هو حالة العالم في زمننا الحاضر وفي القرن الماضي . فعندما تحدثنا في النقطة السابعة أعلاه عما يأتي به الربيع من الحياة الجديدة والدفء والنور من ناحية بينما يأتي ايضا بالعواصف العاتية والامطار والسيول من الناحية الثانية ، نجد ان بناء الصرح الجديد لا يمكن ان يقوم على انقاض الخرابات. ويتفضل السيد المسيح (ع) : "لاَ أَحَدَ يَرْقَعُ ثَوْباً عَتِيقاً مِنْ قُمَاشٍ جَدِيدٍ، لأَنَّ الرُّقْعَةَ الْجَدِيدَةَ تَنْكَمِشُ، فَتَأْكُلُ مِنَ الثَّوْبِ الْعَتِيقِ، وَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَسْوَأَ! وَلاَ يَضَعُ النَّاسُ الْخَمْرَ الْجَدِيدَةَ فِي قِرَبٍ عَتِيقَةٍ؛ وَإِلاَّ، فَإِنَّ الْقِرَبَ تَنْفَجِرُ، فَتُرَاقُ الْخَمْرُ وَتَتْلَفُ الْقِرَبُ. وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَ الْخَمْرَ الْجَدِيدَةَ فِي قِرَبٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ الْخَمْرُ وَالْقِرَبُ مَعاً .." (الانجيل - متى 9:16-17) . فنرى اليوم ان الأفكار البالية والنظم العتيقة تهوى وتسقط بنفسها مهما جد الناس في جهادهم ومثابرتهم لترقيعها والإحتفاظ والتمسك بها . وما نراه من صراع بين الايديولوجيات المختلفة سواء تقمصت بلباس السياسة أو العلم أو العلمانية أو الدين (واكثرها اليوم من نتاج عقول البشر لسد الفراغ الناتج من تدهور الأنظمة العتيقة) ، ما هو إلا محاولات خاسرة لسد الفتق هنا قبل ان نرى انه بدأ هناك ايضا ثم هناك ثم هناك. وكم من المآسي رافقت ولا تزال ترافق هذا الصراع ؟ وكم من مآس اخرى افقدتنا الأمل أو نتجت في تطرفات دينية ليس لها شبه أو صلة لما جاءت به الرسل ، أو بالعكس رجعت بنا الى عهود الجاهلية في تدهور الأخلاق وفي شراستنا ؟ وكم من الأمراض الطبيعية تفشت بسرعة هائلة بين الجماهير والشعوب إما بسبب هذا الجهل والخرافات أو بسبب الأنانية وعدم المبالاة ، أو بسبب الشهوات الحيوانية ؟ وكم من كوارث في ما يتعلق بالطبيعة أو البيئة نتجت عن اهمالنا للبيئة وتخريبنا لها بسبب الجهل والطمع أو حتى التخريب المتعمد بسبب العداوات بين الدول؟
إن الله لا يحب لنا العذاب ولا يتربص فينا وفي زلاتنا ولكن لكل شيء اسباب وتترتب عليه نتائج فلو بعث الله لنا رسولا وأعرضنا عنه سنكون بمثل من كان مريضا على شفا حفرة الموت ويرفض لقاء الطبيب ، بل والأدهى من ذلك يصر على اخذ دواء فقد مفعوله منذ فترة طويلة ، أو دواء صنعه بيده لنفسه عن غير علم أو مهارة ، أو حتى دواء كان صالحا لمرض آخر لا علاقة له بمرض اليوم . ولعل ما يجدر بنا تأمله والتفكر فيه هو هذه الآيات من القرآن الكريم ونرى فيها ان مجيء الرسل بالآيات يكون قبل العذاب وما هذا إلا من رحمة الله وعدله ليمنحنا أولا فرصة الهداية والإيمان قبل ان يصيبنا العذاب بما عملت ايدينا :
"وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى" (طه 134)
"مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَث رَسُولاً" (الإسراء 15)
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (القصص 59)
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود 117) --------------------------------------------------------------------------------
(1) وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - (آل عمران 81-82)
(2) انظر الأية 3 من سورة البينة ...و(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ).
(3) "أنبأ بهاء الله في ألواحه المرسلة إلي ملوك الأرض ورؤسائها في عام 1868 وهو في سجن عكا بما ستؤول إليه أحوالهم والانقلابات التي ستقع في العالم سواء بضياع الملك من أيدي أولئك الملوك الذين لم يستجيبوا للنداء الإلهي,أو بانقضاء عهد الكهنوت الذي حال بين الناس وبين التوجه إلي الله.ولنأخذ علي سبيل المثال إنذاره لنابليون الثالث بأن عزه زائل وأن الذلة تسعي عن ورائه,إلا أن يتمسك بحبل الله المتين,وقد تحقق هذا قبل مضي عامين علي هذا التحذير,حيث خسر نابليون الحرب البروسية واستسلم لبسمارك في أوائل سبتمبر 1870 وثارت باريس عليه بعد ذلك بيومين وخلعته,وبقي سجينا حتي عام 1871 ثم قضي نحبه في منفاه,ومن بعده فقد بيوس التاسع السلطة لنفسه ولخلفائه وانحسر سلطانه في مدينة الفاتيكان,كما فقد السلطان عبد الحميد الخلافة والملك,وقتل ناصر الدين شاه علي يد واحد من أنصار الأفغاني,وهكذا هتكت حرمة سلاطين ذلك الزمان واجتث ملكهم وزال إلي غير رجعة.
خلاصة القول إن أحداث العالم وأحواله سارت في الوجهة التي عينها بهاء الله فتحررت الشعوب واستقلت,وفقدت أوربا منزلتها القديمة,وتشكلت المنظمات الدولية,وتأسست محاكم لحل المنازعات بين الدول بالطرق السلمية,والتزمت الحكومات دوليا باحترام حقوق الأفراد الموجودين علي أراضيها,وانقضي عهد الرق ونظام الإقطاع والسخرة والاستعمار,وبدت في الآفاق نواة لنظام عالمي علي النحو الذي رسمته رؤية حضرة بهاء الله.ومازالت أمور العالم توالي هذه المسيرة بخطي حثيثة حتي تستكمل الشوط وتؤول إلي ما أنبأ به" (انظر ايضا هذه النبوئات الأخرى).
(4) وجاء في صحيح مسلم وصحيح البخاري المجلد الرابع تحت رقم ٦٦٢ ص ٢٠٦ ما يلي: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟"
(5) يتفضل حضرة بهاء الله في احدى كتاباته : "من المشركين من ضن ان البلاء يمنع البهاء عما اراد الله موجد الاشياء قل لا و منزل الامطار انه لا يمنعه شي عن ذكر ربه. تالله الحق لو يحرقونه في البر انه من قطب البحر يرفع رأسه و ينادي انه اله من في السموات والارض ولو يلقونه في بئر ظلماء يجدونه في عـُلى الجبال ينادي قد اتي المقصود بسلطان العظمة والاستقلال ولو يدفنونه في الارض يطلع من افق السماء وينطق باعلى النداء قد اتى البهاء بملكوت الله المقدس العزيز المختار ولو يسفكون دمه كل قطرة منه تصيح وتدعو الله بهذا الاسم الذي به فاحت نفحات القميص في الاشطار. انـّا تحت سيوف الاعداء ندعو العباد الى الله فاطر الارض والسماء وننصره على شأن لا تمنعنا جنود الذين ظلموا ولا سطوة الفجار . قل يا اهل الارض كسّروا أصنام الأوهام باسم ربكم العزيز العلام ثم اقبلوا اليه في هذا اليوم الذي جعله الله سلطان الأيام ..." (آثار القلم الأعلى - المجلد الأول ص 37