<H1>حضرة بهاء اللهصاحب الرسالة الإلهية (١٨١٧-١٨٩٢)"وإنما الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النافذة التي تقرأ روح الشخص. وتعلو جبينه الوَضّاح العريض القدرة والجلال... فلم أك إذ ذاك في حاجة للسؤال عن الشخص الذي امتثلت في حضوره، ووجدت نفسي منحنياً أمام من هو محطّ الولاء والمحبة التي يحسده عليهما الملوك، وتتحسر لنوالهما عبثاً الأباطرة!"
(١)بهذه الكلمات وصف المستشرق إِدوارد غِرانفيل براون، الأستاذ بجامعة كمبريدج، حضرة بهاء الله حين تشرف بزيارة حضرته عام ١٨٩٠ في سجن عكا في فلسطين. وكان حضرة بهاء الله حينها رهين السجن طال نفيه عن وطنه لمدة قاربت الأربعين عاماً، وكانت رسالته آنذاك يحيط بها الغموض بسبب القيود المفروضة عليها، والدعوات المغرضة التي يطلقها أعداؤها. أما اليوم فيعترف الملايين من أتباعه المؤمنين في أرجاء العالم كافة بأنه صاحب الرسالة الإلهيّة لهذا العصر والمربّي الرّوحي لأهل هذا الزمان. ويعتقد البهائيون أنَّ الله سبحانه وتعالى يبعث برسله في فترات مختلفة من التاريخ فيؤسّس هؤلاء، كما فعل موسى وإبراهيم وعيسى ومحمد وكرشنا وبوذا عليهم السلام، أَديانَ العالم ونظمه الروحية. إنّه الخالق الودود يبعث برسله الينا كي نتمكن من التعرف عليه والتعبد لديه بحيث نتمكن من بناء حضارة إِنسانية دائمة التقدم فيما تحقّقه من انجازات عظيمة.
إِنَّ مقام رسل الله ومظاهر أمره مقامٌ فريد متميّز في عالم الخلق. فرسل الله ومظاهر قدرته يتمتعون بطبيعة ثنائية إِنسانيّة وإلهيّة في آن معاً دون أنْ يكونوا في مقام الله سبحانه وتعالى، وهو الخالق المنزّه عن الادراك. وفي هذا المجال كتب حضرة بهاء الله في وصف الله سبحانه وتعالى ما يلي:
"إنَّه لم يزل ولا يزال كان متوحّداً في ذاته ومتفرّداً في صفاته وواحداً في أفعاله وإنَّ الشبيهَ وَصْفُ خلقه والشريكَ نعتُ عباده، سبحان نفسه من أَنْ يوصف بوصف خلقه، وإنَّه كان وحده في علوّ الارتفاع وسموّ الامتناع ولن يَطِرْ إلى هواء قدس عرفانه أطيار أفئدة العالمين مجموعاً، وإنَّه قد خلق الممكنات وذَرَأ الموجودات بكلمة أمره."
(٢)إِضافةً إلى ذلك يوجّه حضرة بهاء الله هذا الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى فيقول:
"سبحانك سبحانك من أنْ يقاس أمرك بأمر أو يرجع اليه الأمثال أو يُعرف بالمقال، لم تزل كنت وما كان معك من شيء ولا تزال تكون بمثل ما كنت في علوّ ذاتك وسموّ جلالك، فلما أردتَ عرفان نفسك أَظهرتَ مظهراً من مظاهر أمرك وجعلته آية ظهورك بين بريّتك ومظهر غيبك بين خلقك..."
(٣)وفي شرحه للعلاقة القائمة بين المظهر الإلهي والخالق السماوي استخدم حضرة بهاء الله مَثَل المِرآة، فالمِرآة تعكس نور الشمس، تماماً كما تعكس المظاهر الإلهيّة نور الله، وكما أنّه لا يمكن مقارنة الشمس بالمِرآة، كذلك لا يمكن مقارنة المظهر الإلهي بالحقيقة الإلهيّة:
"إنَّ هذه المرايا القُدُسية... كلّها تحكي عن شمس الوجود تلك، وذلك الجوهر المقصود، فَعِلْمُ هؤلاء مثلاً من علمه هو، وقدرتهم من قدرته، وسلْطنتهم من سلْطنته، وجمالهم من جماله..."
(٤)إنَّ رسالة حضرة بهاء الله لهذا العصر هي في الأَساس رسالة العدل والوحدة والاتّحاد، فقد كتب يقول:
"أحبُّ الأشياء عندي الإنصاف،"(٥) وكرّر القول في موضعين آخرين بأن
"العالم وطن واحد والبشر سكّانه"(٦) وبأنَّه
"لا يمكن تحقيق إصلاح العالم واستتباب أمنه واطمئنانه إلاّ بعد ترسيخ دعائم الاتِّحاد والاتِّفَاقِ."(٧) هذا ما وصفه الرّحمن من دواء ناجع لشفاء علل العالم.
ورغم أنَّ مثل هذه التصريحات والبيانات أَصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ مما يفكّر به عموم الناس، فَلَنا أنْ نتصور كيف باغتت هذه الآراء والأفكار شخصاً مثل إِدوارد غِرانفيل براون حين وجّه اليه حضرة بهاء الله هذه الكلمات في تصريحه الرائع حيث قال:
"الحمد لله إذ وصلتَ... جئتَ لترى مسجوناً ومنفيّاً... نحن لا نريد إلاّ إصلاحَ العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان، ومستحقين للحبس والنفي... فأي ضرر في أنْ يتّحد العالم على دين واحد وأنْ يكون الجميع إخواناً، وأن تُستَحكَم روابط المحبّة والاتحاد بين بني البشر، وأنْ تزول الاختلافات الدينية وتُمحى الفروق العِرقية؟ ...ولا بدّ من حصول هذا كلّه، فستنقضي هذه الحروب المدمرة والمشاحنات العقيمة وسيأتي الصلح الأعظم..."
(٨)وُلد حضرة بهاء الله في بلاد فارس في القرن التاسع عشر في أسرة عريقة مرموقة الجانب، وكان من البديهي أنْ يجد نفسه في بُحبوحة من العيش وقسط وافر من الثراء. إلاّ أنّه ومنذ زمن مبكّر لم يُبدِ اهتماماً بالسير على خُطى والده والدخول إلى بلاط الشاه، مُؤثِراً أن يصرف جُلّ وقته وإمكاناته في رعاية الفقراء والحدب عليهم. وفيما بعد سُجن حضرة بهاء الله وتم نفيه نتيجة اعترافه بدين حضرة الباب الذي قام يبشّر بدعوته عام ١٨٤٤ في بلاد فارس، وهو الذي كان مُقدّراً له أنْ يحقّق ما جاء به الإسلام من الوعود والنبوءات.
أشار حضرة الباب في آثاره إلى قرب مجيء الموعود الذي بشّرتْ به الأديان العالمية كلّها، فكان أنْ أعلن حضرة بهاء الله بأنَّه ذلك الموعود المنتظر، فخصّ العصر الذي شهد مجيء رسالته بهذا التمجيد والثناء:
"إن هذا اليوم هو سلطان الأيّام جميعها، إنّه يوم ظهر فيه محبوب العالم، ومقصود العالمين منذ أزل الآزال."(٩) وفي مناسبة أخرى يضيف قائلاً:
"قل إنيّ أنا المذكور بلسان الإشعيا وزُيّنَ باسمي التوراة والإنجيل."(١٠) أمّا في حقّ نفسه فقد صرح مؤكدا:
"إنَّ قلم القدس قد كتب على جبيني الأبيض بنور مبين أنْ يا ملأ الأرض وسكان السماء هذا لهو محبوبكم بالحقّ وهو الذي ما رأت عين الإبداع شبهه والذي بجماله قرّت عين الله الآمر المقتدر العزيز."(١١)</H1>