إنّ العوامل التي سبّبت اشتعال الاضطرابات في مازندران ونيريز هي بعينها التي أشعلت زنجان أيضًا وما حولها في وقت استشهاد الباب في تبريز. وكانت عاصفة زنجان أفظع من جميع ما سبقتها من النكبات وأشنع المآسي في تاريخ هذا الأمر. وكان بطلها الحجّة الزنجاني واسمه الملاّ محمد علي وقد لقّبه الباب بالحجّة وهو من أقدر علماء عصره وبلا ريب من أكبر ناصري الأمر. وفي زنجان أخذ يخطب في الجماهير المحتشدة ناصحًا إيّاهم بترك النّفس والهوى وأخذ يحثُّ الناس بترك جميع أنواع المفاسد وشجعهم بسلوكه ومثاله أن يتبعوا الأمر الجديد. وكلّما ازداد الهياج ازداد إخلاص أصحابه وأتباعه إلى أن عرض الحاج الميرزا آقاسي الأمر على محمد شاه فأمر الشاه بنقل الحجّة من زنجان إلى العاصمة. وكانت السلطات المحلّيّة قد عملت ترتيبًا لضمان غياب الحجّة في الوقت الذي يمرّ الباب فيه في تلك المدينة (زنجان) خوفًا من حصول ما لا تحمد عقباه إذا اجتمع الحجّة مع الباب. وأمّا الأصحاب الذين تبعوا الحجّة في طريقه إلى العاصمة فقد أمرهم بأن يعودوا إلى المدينة لمقابلة الباب.
ولما وصل الحجّة إلى طهران أحضروه أمام الحاج الميرزا آقاسي الذي أظهر له اشمئزازه من سلوكه في زنجان فأجابه الحجّة قائلاً: "إنّ ذلك السيّد من شيراز هو نفس الذي تنتظره أنت وجميع من على الأرض بشوق فهو مولانا وهو المخلّص الموعود." ورغمًا من أنه حكم بكفره وأمر بإعدامه فإنّ محمد شاه استمر في منحه الإنعامات لأنّه كان غير مبال لتصديق الادعاءات التي كان يعتقد بأنها نتيجة الحسد والغيرة الصادرتين من أعداء الحجّة.
ولمّا عجز الحاج الميرزا آقاسي عن أن يخالف الرغبة الملكيّة سعى أن يُخفي حسده ولكن الحجّة في الواقع كان سجينًا في طهران فلم يكن يقدر على مغادرة أبواب العاصمة ولم يكن يُسمح له بمحادثة من يريد من أصحابه. وكانت تعزيته الوحيدة في تلك الأيّام الاتصال الدائم بحضرة بهاء الله مُستمدًّا منه القوّة التي مكَّنته في مستقبل الأيّام أن يمتاز بأعماله التي لم تكن أقلّ شهامة من أعمال هؤلاء الأصحاب في أظلم الساعات في قلعة طبرسي. وكان أمير النظام رئيس الوزراء الجديد قد وطّد العزم على أن يشدّد في حبس الحجّة والبحث عن طريقة لإعدامه. ولما أخطر بالخطر الذي كان يهدّد حياته عزم على مغادرة طهران وبطريقة ما وصل الحجّة إلى موطنه زنجان فهرعت جموع المحبّين للترحيب به. وقد أزعج هذا الأمر الأمير أرسلان خان مجد الدولة عمّ ناصر الدين شاه وحاكم زنجان وأخذ يتآمر سرًّا على إعدامه. وأمّا الأصحاب في زنجان فبدت منهم جميعًا الرّغبة الشديدة بتنفيذ الأحكام الجديدة بكل حماس تاركين التقاليد والعوائد القديمة. وكان الناس في تلك الأثناء يحرّضون بعضهم على قتل من يمكنهم أن يقبضوا عليه واتفقوا فيما بينهم أن لا يستريحوا حتى يُطفئوا تلك النار الموقدة واجبروا الحاكم على أن يُطلق مناديًا ينادي في زنجان بأنّ كلّ من يريد أن ينضم إلى الحجّة وأصحابه فإنّه يجعل حياته في خطر.
وكان من هذا الجزاء أن انقسم الأهالي إلى فريقين ومعسكرين متحاربين وكان بمثابة امتحان شديد للذين كانوا مترددين في قبول الأمر واحداث أعظم الحوادث المؤثرة وأوجب تفريق الأبناء والإخوة والأقارب عن بعضهم البعض ووقعت زنجان فريسة لأعظم وأقسى هياج وارتفع الضجيج من أفراد الأسر المنقسمة إلى عنان السماء من شدّة اليأس الممزوج بصيحات الشتائم التي كان يقذف بها البعض في تهديداته وتقابلها صيحات الفرح الصادرة من الذين افترقوا عن ذويهم وأقربائهم وعشائرهم وانضموا لنصرة الحجّة. وأخذ الحجّة ينصح البابيين أن لا يتعدّوا على أحد وأن يدافعوا عن أنفسهم فقط وينبههم أن لا يسفكوا دماء أحد بدون مقتض وأن تكون مهمتهم الوحيدة قاصرة عن الدفاع والمحافظة على عدم خرق حُرمة الأطفال والنساء ونقل الحجّة مقرّه إلى قلعة علي مردان خان في زنجان. وابتدأت الحرب بين الفريقين بكيفيّة لم تشهد مثلها زنجان وأطلق المدافع على قلعة علي مردان خان حيث كان المحاصرون (البابيون) يدافعون ويقاومون الهجوم ببسالة طبقًا لأوامر الحجّة.
وكانت أرياح البغضاء على اشتدادها غير قادرة على إطفاء لهيب ذلك الحماس الملتهب الذي تجلّى في تلك القلوب الباسلة. وكان الرجال والنساء يشتغلون بحماس لا مزيد عليه لتقوية استحكامات القلعة وبناء كل ما كان يدمّر منها. وكانوا يصرفون أوقات الفراغ في الصلاة ولم يكن حماس النساء في ذلك الحصار بأقلّ من حماس وحرارة الرجال. وكانت قوّة المحصورين تظهر كأنّها لا يمكن أن تتزعزع إلى الأبد وأنّ مواردهم لا تفنى. وقام محمد خان المعروف بالأمير تومان قائد القوات في زنجان وعزم أن يلجأ إلى إخضاع المحصورين إخضاعًا كلّيًا بوسائل الخداع. فاعتقد أهالي زنجان والقرى المجاورة أنّ ناصر الدين شاه قد أمر الأمير تومان بالمفاوضة للصلح بينه وبين الحجّة وأنّه عزم على إنهاء الأمر والحالة الراهنة التعيسة بأسرع ما يمكن.
وأرسل الأمير تومان خطابًا يدعو فيه المحصورين للصلح وأكّد للحجّة نيّته للحصول على الوفاق وأرفق بالكتاب نسخة من القرآن الكريم وكتب: "إنّ مليكي سامحك وإنّي أُقسم بهذا أنّك وأصحابك في حفظ وحماية الملك. وهذا كتاب الله شاهدي على أنّه إذا أراد أحد الخروج من القلعة فإنّه يكون آمنًا من أي خطر." فاستلم الحجّة القرآن بالاحترام من يد الرسول وقال: "إنّ خيانات مازندران ونيريز لا تزال عالقة في الأذهان. فما فعلوه معهم يريدون أن يفعلوا مثله معنا. ولكن مع ذلك نجيبهم إلى طلبهم احترامًا للقرآن ونرسل إلى معسكرهم عددًا من الأصحاب." وأرسل الحجّة بعثة إلى الأمير تومان الذي استقبلهم بالشتائم وبلهجة التأنيب الشديد فقال له أحدهم: "إنّي أحمل القرآن في يدي وفيه الإقرار الذي اخترتم بأنفسكم كتابته. فهل ما سمعته الآن هو مكافأتنا على إجابتكم لطلبكم." فازداد غضب الأمير تومان وأمر بطرح الوفد في سرداب وحبسهم. ومن شدّة يأسه نظّم الأمير تومان قوّات فرقته وأمر أن تهجم على القلعة واستمرّ الحصار والقتال ليلاً ونهارًا لمدّة شهر حتى أضعفت صفوف الأصحاب وزادت في ضيقهم. وابتدأ ضرب البناء بالمدافع ضربًا شديدًا حتى تهدّدت القلعة بالتخريب. وفي هذه الأثناء أصيب الحجّة بطلقة في ذراعه وهو يؤدّي فريضة الوضوء وما كاد خبر جرحه يصل إلى أسماع الأصحاب حتى تركوا أسلحتهم وأسرعوا إليه. وانتهز رجال الأمير تومان إذ ذاك فرصة تغيّب مقاوميهم واشتدّ هجومهم على القلعة وتمكنوا من الدخول منها وقتل الكثيرون أثناء هذه الملاحم.
وفي صباح اليوم الخامس من شهر ربيع الأوّل سنة 1267
هجريّة (8 يناير سنة 1851ميلاديّة) توفي الحجّة بعد أن قاسى آلامًا شديدة من جرحه لمدّة تسعة عشر يومًا. وقبل وفاته قال: "يا إلهي ولو أنّ عندي آلافًا من النفوس ومِلْء الأرض ذهبًا وما في العالم من فخر لفديت الجميع في سبيلك بكلّ فرح."
وأما أصحابه فبالرغم من وفاة قائدهم استمروا على أن يواجهوا القوات بكل حماس وعَزَم الأمير تومان أن يُبيد البقيّة الباقية من هذه الفئة الرّاسخة وابتدأت المذبحة على شكل لم يسبق له مثيل في قسوتها ووحشيتها. وقام الأهالي على ارتكاب كل فظاعة وتمثيل بأسراهم. ورغمًا عن كل هذه الإهانات والقسوة والتعذيب لم يسمع أنّ أحدًا منهم رجع عن إيمانه أو تكلّم بكلمة واحدة ضدّ معذّبيه ولم يخرج من شفاههم كلمة استياء ولم يظهر على وجوههم أي أثر للأسف والأسى. فلم تفلح أي مقاومة في إطفاء تلك الشعلة التي أضاءت أنوارها قلوبهم.
والمكان الذي كان مشهدًا لأعظم الآلام والذي كان ميدانًا لمثل هذه الفروسيّة سماه الباب-الأرض الأعلى- وهو لقب يبقى دائمًا مقترنًا باسمه الشريف.